الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمُ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القول في تأويل قوله تعالى: {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في معاني حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل ما افتتح بها من سور القرآن، وبينا الصواب من قولهم في ذلك عندنا بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع إذ كانت هذه الحروف نظيرة الماضية منها. {حم عسق} وقد ذكرنا عن حُذيفة في معنى هذه خاصة قولا وهو ما حدثنا به أحمد بن زهير، قال: ثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: ثنا أبو المُغيرة عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، عن أرطأة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له وعنده حُذيفة بن اليمان، أخبرني عن تفسير قول الله: {حم عسق} قال: فأطرق ثم أعرض عنه، ثم كرّر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء وكره مقالته، ثم كرّرها الثالثة فلم يجبه شيئا، فقال له حُذيفة: أنا أنبئك بها، قد عرفت بم كرهها; نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق، تبنى عليه مدينتان يشقّ النهر بينهما شقا، فإذا أذن الله في زوال مُلكهم، وانقطاع دولتهم ومدتهم، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت، كأنها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة، كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله: {حم عسق}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: (لِلَّهِ) مَلِكُ {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا {وَهُوَ الْعَلِيُّ} يَقُولُ: وَهُوَ ذُو عُلُوٍّ وَارْتِفَاعٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا دُونَهُ، لِأَنَّهُمْ فِي سُلْطَانِهِ، جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ قُدْرَتُهُ، مَاضِيَةٌ فِيهِمْ مَشِيئَتُهُ (الْعَظِيمُ) الَّذِي لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْجَبْرِيَّةُ. وَقَوْلُهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَشَقَّقْنَ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِينَ، مِنْ عَظَمَةِ الرَّحْمَنِ وَجَلَالِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} قَالَ: يَعْنِي مِنْ ثِقَلِ الرَّحْمَنِ وَعَظَمَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ}: أَيْ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} قَالَ: يَتَشَقَّقْنَ فِي قَوْلِهِ: (مُنْفَطِرٌ بِهِ) قَالَ: مُنْشَقٌّ بِهِ. حَدَّثَنَا عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} يَقُولُ: يَتَصَدَّعْنَ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ قَالَ: ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِِ بْنِِ قَيْسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى كَعْبٍ فَقَالَ: يَا كَعْبُ أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: دَقَّ اللَّهُ تَعَالَى، أَفَتَسْأَلُ عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ كَعْبٌ: دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ عَالِمًا ازْدَادَ، وَإِنْ يَكُ جَاهِلًا تَعْلَّمُ. سَأَلْتَ أَيْنَ رَبُّنَا، وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ الْعَظِيمِ مُتَّكِئٌ، وَاضِعٌ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَمَسَافَةُ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَمِنَ الْأَرْضِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ، وَكَثَافَتُهَا خَمْسُ مِئَةٍ سَنَةٍ، حَتَّى تَمَّ سَبْعَ أَرْضِينَ، ثُمَّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ، وَكَثَافَتُهَا خَمْسُ مِئَةِ سَنَةٍ، وَاللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ مُتَّكِئٌ، ثُمَّ تُفْطَّرُ السَّمَوَاتُ. ثُمَّ قَالَ كَعْبٌ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (مِنْ فَوْقِهِنَّ).... الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَشُكْرِهُمْ لَهُ مِنْ هَيْبَةِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنَاأَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} قَالَ: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ لَهُ مِنْ عَظَمَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} قَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ لِذُنُوبِ مُؤْمِنِي عِبَادِهِ، الرَّحِيمُ بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) يَا مُحَمَّدُ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ {مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} آلِهَةً يَتَوَلَّوْنَهَا وَيَعْبُدُونَهَا {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} يُحْصِي عَلَيْهِمْ أَفْعَالَهُمْ، وَيَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ، لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَزَاءَهُمْ. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}. يَقُولُ: وَلَسْتَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ بِالْوَكِيلِ عَلَيْهِمْ بِحِفْظِ أَعْمَالِهِمْ، إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ، فَبَلِّغْهُمْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَهَكَذَا (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يَا مُحَمَّدُ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بِلِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِمْ قَوْمٌ عَرَبٌ، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لِيَفْهَمُوا مَا فِيهِ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ، لِأَنَّا لَا نُرْسِلُ رَسُولًا إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وَهِيَ مَكَّةُ (وَمَنْ حَوْلَهَا) يَقُولُ: وَمَنْ حَوْلَ أُمِّ الْقُرَى مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} قَالَ: مَكَّةَ. وَقَوْلُهُ: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: وَتَنْذِرَ عِقَابَ اللَّهِ فِي يَوْمِ جَمْعِ عِبَادِهِ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ وَالْعَرْضِ. وَقِيلَ: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: وَتُنْذِرُهُمْ يَوْمَ الْجَمْعِ، كَمَا قِيلَ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، وَالْمَعْنَى: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: (لَا رَيْبَ فِيهِ) يَقُولُ: لَا شَكَّ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} يَقُولُ: مِنْهُمْ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاتَّبَعُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} يَقُولُ: وَمِنْهُمْ فَرِيقٌ فِي الْمَوْقَدَةِ مِنْ نَارِ اللَّهِ الْمَسْعُورَةِ عَلَى أَهْلِهَا، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ، وَخَالَفُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ. وَقَدْ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ الْمُعَافِرِيِّ، عَنْ شَفِّيِّ الْأَصْبَحِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: " «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَى يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ " فَقُلْنَا: لَا إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ"، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا، وَهَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ"، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، "فَلَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا"، قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَفِيمَ إِذَنْ نَعْمَلُ إِنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَلْ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَصَاحِبُ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا: "فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْخَلْقِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَلَمَ نَعْمَلُ وَنَنْصُبُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْعَمَلُ إِلَى خَوَاتِمِه» ". حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُسِيدٍ، أَنَّ أَبَا فِرَاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لَمَّا خَلَقَ آدَمَ نَفَضُهُ نَفْضَ الْمُزَوَّدِ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ، فَخَرَجَ أَمْثَالُ النَّغَفِ، فَقَبَضَهُمْ قَبْضَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، ثُمَّ أَلْقَاهُمَا، ثُمَّ قَبَضَهُمَا فَقَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ". قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي شُبُّوَيْهِ، حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ خَلْقُكَ الَّذِينَ خَلَقْتَهُمْ، جَعَلْتَ مِنْهُمْ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ، لَوْ مَا أَدْخَلْتَهُمْ كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ قَالَ: يَا مُوسَى ارْفَعْ زَرْعَكَ، فَرَفَعَ، قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ، قَالَ: ارْفَعْ، فَرَفَعَ، فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا، قَالَ: يَا رَبِّ قَدْ رَفَعْتُ، قَالَ: ارْفَعْ، قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، قَالَ: كَذَلِكَ أُدْخِلُ خَلْقِي كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقِيلَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} فَرَفَعَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} بِالنُّصْبِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الِابْتِدَاءُ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ الْعَسْكَرَ مَقْتُولٌ أَوْ مُنْهَزِمٌ، بِمَعْنَى: مِنْهُمْ مَقْتُولٌ، وَمِنْهُمْ مُنْهَزِمٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ خَلْقَهُ عَلَى هُدَى، وَيَجْعَلَهُمْ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَفَعَلَ، وَ {لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ: أَهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَمَاعَةً مُجْتَمِعَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. يَقُولُ: لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَيَجْعَلُهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ يَدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ، مِنْ عِبَادِهِ فِي رَحْمَتِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ يُدْخِلُهُ فِي رَحْمَتِهِ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُ لِلدُّخُولِ فِي دِينِهِ، الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. يَقُولُ: وَالْكَافِرُونَ بِاللَّهِ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ يَتَوَلَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا نُصَيْرٍ يَنْصُرُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ حِينَ يُعَاقِبُهُمْ، فَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَيَقْتَصُّ لَهُمْ مِمَّنْ عَاقَبَهُمْ، وَإِنَّمَا قِيلَ هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْلِيَةً لَهُ عَمَّا كَانَ يَنَالُهُ مِنَ الْهَمِّ بِتَوْلِيَةِ قَوْمِهِ عَنْهُ، وَأَمَرًا لَهُ بِتَرْكِ إِدْخَالِ الْمَكْرُوهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَجْلِ إِدْبَارِ مَنْ أَدْبَرَ عَنْهُ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَإِعْلَامًا لَهُ أَنَّ أُمُورَ عِبَادِهِ بِيَدِهِ، وَأَنَّهُ الْهَادِي إِلَى الْحَقِّ مَنْ شَاءَ، وَالْمُضِلُّ مَنْ أَرَادَ دُونَهُ، وَدُونَ كُلِّ أَحَدٍ سِوَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَمِ اتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَتَوَلَّوْنَهُمْ. {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} يَقُولُ: فَاللَّهُ هُوَ وَلِيُّ أَوْلِيَائِهِ، وَإِيَّاهُ فَلْيَتَّخِذُوا وَلِيًّا لَا الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ، وَلَا مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا. {وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى} يَقُولُ: وَاللَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِمْ، فَيَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يَقُولُ: وَاللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ خَلْقِهِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِمْ وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، إِنَّهُ ذُو قُدْرَةٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَتَنَازَعْتُمْ بَيْنَكُمْ، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَكُمْ وَيَفْصِلُ فِيهِ الْحُكْمَ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَمْرٍو فِي حَدِيثِهِ: فَهُوَ يَحْكُمُ فِيهِ، وَقَالَ الْحَارِثُ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} يَقُولُ لِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ هَذَا الَّذِي هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتُهُ رَبِّي، لَا آلِهَتُكُمُ الَّتِي تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ، الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فِي أُمُورِي، وَإِلَيْهِ فَوَّضْتُ أَسْبَابِي، وَبِهِ وَثِقْتُ (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يَقُولُ: وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ فِي أُمُورِي وَأَتُوبُ مِنْ ذُنُوبِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، خَالِقِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ. كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: خَالِقِ. وَقَوْلُهُ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: زَوَّجَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا. وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} لِأَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، فَهُوَ مِنَ الرِّجَالِ. {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ، ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ ذَلِكَ. {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} يَقُولُ: يَخْلُقُكُمْ فِيمَا جُعِلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، وَيُعَيِّشُكُمْ فِيمَا جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: يَخْلُقُكُمْ فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْعٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} قَالَ: نَسْلٌ بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {يَذْرَؤُكُمْ} قَالَ: يَخْلُقُكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} قَالَ: نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} قَالَ يَخْلُقُكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: يُعَيِّشُكُمْ فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} يَقُولُ: يُجْعَلُ لَكُمْ فِيهِ مَعِيشَةٌ تَعِيشُونَ بِهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} قَالَ: يُعَيِّشُكُمْ فِيهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} قَالَ: عَيْشٌ مِنَ اللَّهِ يُعَيِّشُكُمْ فِيهِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ مِنْ قَائِلِيهِمَا فَقَدْ يَحْتَمِلُ تَوْجِيهُهُمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ فِي مَعْنَاهُ يُعَيِّشُكُمْ فِيهِ، أَرَادَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ: يُحْيِيكُمْ بِعَيْشِكُمْ بِهِ كَمَا يُحْيِي مَنْ لَمْ يَخْلُقْ بِتَكْوِينِهِ إِيَّاهُ، وَنَفْخِهِ الرُّوحَ فِيهِ حَتَّى يَعِيشَ حَيًّا. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى ذَرْءِ اللَّهِ الْخَلْقَ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ، وَأَدْخَلَ الْمِثْلَ فِي الْكَلَامِ تَوْكِيدًا لِلْكَلَامِ إِذَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ بِهِ وَبِالْكَافِ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍٍ، كَمَا قِيلَ: مَا إِنْ نَدِيتُ بِشَيْءٍ أَنْتَ تَكْرَهُهُ فَأُدْخِلَ عَلَى"مَا" وَهِيَ حَرْفُ جَحْدٍ"إِنْ" وَهِيَ أَيْضًا حَرْفُ جَحْدٍ، لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ بِهِمَا، وَإِنِ اتَّفَقَ مَعْنَاهُمَا تَوْكِيدًا لِلْكَلَامِ، وَكَمَا قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ: وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلْ *** تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ وَمَعْنَى ذَلِكَ: كَجُذُوعِ النَّخِيلِ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إِذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ *** مَا إِنْ كَمِثْلِهِمِ فِي النَّاسِ مِنْ أَحَدٍ وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَيْسَ مِثْلَ شَيْءٍ، وَتَكُونُ الْكَافُ هِيَ الْمُدْخَلَةُ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ: وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤْثَفَيْنِ فَأُدْخِلَ عَلَى الْكَافِ كَافًا تَوْكِيدًا لِلتَّشْبِيهِ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: تَنْفِي الْغَيَادِيقُ عَلَى الطَّرِيقِ *** قَلَّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ فَأَدْخِلَ الْكَافُ مَعَ"عَنْ"، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ بِشَرْحٍ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ، فَلِذَلِكَ تَجَوَّزْنَا فِي الْبَيَانِ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَاصِفًا نَفْسَهُ بِمَا هُوَ بِهِ، وَهُوَ يَعْنِي نَفْسَهُ: السَّمِيعُ لِمَا تَنْطِقُ بِهِ خَلْقُهُ مِنْ قَوْلٍ، الْبَصِيرُ لِأَعْمَالِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ عَلِمُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهِ، مُحْصٍ صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. يَعْنِي- تَعَالَى ذِكْرُهُ- بِقَوْلِهِ: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: لَهُ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَبِيَدِهِ مَغَالِيقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَفَاتِيحُهَا، فَمَا يَفْتَحْ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: مَفَاتِيحُ بِالْفَارِسِيَّةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: مَفَاتِيحُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَعَنِ الْحَسَنِ بِمِثْلٍ ذَلِكَ. ثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يَقُولُ: يُوَسِّعُ رِزْقَهُ وَفَضْلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلْقِهِ، وَيَبْسُطُ لَهُ، وَيُكْثِرُ مَالَهُ وَيُغْنِيهِ. وَيَقْدِرُ: يَقُولُ: وَيُقْتِرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فَيُضَيِّقُهُ وَيُفْقِرُهُ. {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِكُلِّ مَا يَفْعَلُ مِنْ تَوْسِيعِهِ عَلَى مَنْ يُوَسِّعُ، وَتَقْتِيرِهِ عَلَى مَنْ يُقَتِّرُ، وَمَنِ الَّذِي يُصْلِحُهُ الْبَسْطُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَيُفْسِدُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَالَّذِي يُصْلِحُهُ التَّقْتِيرُ عَلَيْهِ وَيُفْسِدُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، ذُو عِلْمٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَوْضِعُ الْبَسْطِ وَالتَّقْتِيرِ وَغَيْرِهِ، مِنْ صَلَاحِ تَدْبِيرِ خَلْقِهِ. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَإِلَى مَنْ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي صِفَتُهُ مَا وَصَفْتُ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَيُّهَا النَّاسُ فَارْغَبُوا، وَإِيَّاهُ فَاعْبُدُوا مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَا الْأَوْثَانَ وَالْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ، الَّتِي لَا تَمْلِكُ لَكُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَوَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {شَرَعَ لَكُمْ} رَبُّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ {مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} أَنْ يَعْمَلَهُ {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَشَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرْنَاكَ بِهِ {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} يَقُولُ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ"فَأَنْ" إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّرْجَمَةِ بِهَا عَنْ"مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (بِهِ)، وَتَفْسِيرًا عَنْهَا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: شَرْعٌ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ، وَهُوَ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ. وَإِذْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي أَوْصَى بِهِ جَمِيعُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَصِيَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ إِقَامَةُ الدِّينِ الْحَقِّ، وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} قَالَ: مَا أَوْصَاكَ بِهِ وَأَنْبِيَائُهُ، كُلُّهُمْ دِينٌ وَاحِدٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} قَالَ: هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} بُعِثَ نُوحٌ حِينَ بُعِثَ بِالشَّرِيعَةِ بِتَحْلِيلِ الْحَلَّالِ، وَتَحْرِيمِ الْحَرَامِ {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} قَالَ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}.... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: حَسْبُكَ مَا قِيلَ لَكَ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} أَنِ اعْمَلُوا بِهِ عَلَى مَا شَرَعَ لَكُمْ وَفَرَضَ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} قَالَ: اعْمَلُوا بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} يَقُولُ: وَلَا تَخْتَلِفُوا فِي الدِّينِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِالْقِيَامِ بِهِ، كَمَا اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ قَبْلِكُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} تَعَلَّمُوا أَنَّ الْفُرْقَةَ هَلَكَةٌ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ ثِقَةٌ. وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْبَرَاءَةِ مِمَّا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} قَالَ: أَنْكَرَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَصَادَمَهَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، فَأَبَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَّا أَنْ يُمْضِيَهَا وَيَنْصُرَهَا وَيُفْلِجَهَا وَيُظْهِرَهَا عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا. وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} يَقُولُ: اللَّهُ يَصْطَفِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلْقِهِ، وَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ، وَوِلَايَتِهِ مَنْ أَحَبَّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} يَقُولُ: وَيُوَفِّقُ لِلْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا بُعِثَ بِهِ نَبِيُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْحَقِّ مَنْ أَقْبَلَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَرَاجَعَ التَّوْبَةَ مِنْ مَعَاصِيهِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}: مَنْ يُقْبِلُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْوَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا تَفَرَّقَ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ فِي أَدْيَانِهِمْ فَصَارُوا أَحْزَابًا، إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، بِأَنَّ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَبَعْثَ بِهِ نُوحًا، هُوَ إِقَامَةُ الدِّينِ الْحَقِّ، وَأَنْ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} فَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّهَا هَلَكَةٌ (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) يَقُولُ: بَغَيًا مِنْ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَحَسَدًا وَعَدَاوَةً عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَوْلَا قَوْلٌ سَبَقَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ، وَلَكِنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، وَذَلِكَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فِيمَا ذُكِرَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يَقُولُ: لَفَرَغَ رَبُّكَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ نُوحًا مِنْ بَعْدِ عِلْمِهِمْ بِهِ، بِإِهْلَاكِهِ أَهْلَ الْبَاطِلِ مِنْهُمْ، وَإِظْهَارِهِ أَهْلَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يَقُولُ: وَإِنَّ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ كِتَابَهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} يَقُولُ: لَفِي شَكٍّ مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَصَّى اللَّهُ بِهِ نُوحًا، وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَأَمَرُكُمَا بِإِقَامَتِهِ مُرِيبٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍوَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَإِلَى ذَلِكَ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَ لَكُمْ، وَوَصَّى بِهِ نُوحًا، وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ، وَاسْتَقِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا تَزُغْ عَنْهُ، وَاثْبُتْ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَكَ رَبُّكَ بِالِاسْتِقَامَةِ. وَقِيلَ: فَلِذَلِكَ فَادْعُ، وَالْمَعْنَى: فَإِلَى ذَلِكَ، فَوُضِعَتِ اللَّامُ مَوْضِعَ إِلَى، كَمَا قِيلَ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُوَجِّهُ مَعْنَى ذَلِكَ، فِي قَوْلِهِ: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} إِلَى مَعْنَى هَذَا، وَيَقُولُ: مَعْنَى الْكَلَامِ: فَإِلَى هَذَا الْقُرْآنِ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ. وَالَّذِي قَالَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِمَّا قُلْنَاهُ، غَيْرَ أَنَّ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ خَبَرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِقَامَتِهِ، وَلَمْ يَأْتِ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى انْصِرَافِهِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَا تَتَّبِعُ يَا مُحَمَّدُ أَهْوَاءَ الَّذِينَ شَكُّوا فِي الْحَقِّ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكُتَّابَ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَهُمْ، فَتَشُكُّ فِيهِ، كَالَّذِي شَكُّوا فِيهِ. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: صَدَّقْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، تَوْرَاةً كَانَ أَوْ إِنْجِيلًا أَوْ زَبُورًا أَوْ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ، لَا أُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَكْذِيبَكُمْ بِبَعْضِهِ مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ، وَتَصْدِيقَكُمْ بِبَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: وَأَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ، فَأَسِيرُ فِيكُمْ جَمِيعًا بِالْحَقِّ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ وَبَعَثَنِي بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ. كَالَّذِي حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} قَالَ: أُمِرَ نَبِيُّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَعْدِلَ، فَعَدَلَ حَتَّى مَاتَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، بِهِ يَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَلِلضَّعِيفِ مِنَ الشَّدِيدِ، وَبِالْعَدْلِ يُصَدِّقُ اللَّهُ الصَّادِقَ، وَيُكَذِّبُ الْكَاذِبَ، وَبِالْعَدْلِ يَرُدُّ الْمُعْتَدِيَ وَيُوَبِّخُهُ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ يَقُولُ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَعْجَبَنِي جِدًّا: الْقَصْدُ فِي الْفَاقَةِ وَالْغِنَى، وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْخَشْيَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ؛ وَثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَهْلَكَهُ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَأَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيهِنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَبَدَنٌ صَابِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى اللَّامِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: مَعْنَاهَا: كَيْ، وَأُمِرْتُ كَيْ أَعْدِلَ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى الْكَلَامِ: وَأُمِرْتُ بِالْعَدْلِ، وَالْأَمْرُ وَاقِعٌ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَتِ اللَّامُ الَّتِي فِي لِأَعْدِلَ بِشَرْطٍ؛ قَالَ: (وَأُمِرْتُ) تَقَعُ عَلَى"أَنْ" وَعَلَى"كَيْ" وَاللَّامِ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ، وَكَيْ أَعْبُدَ، وَلِأَعْبُدَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ طَالَبَ الِاسْتِقْبَالَ، فَفِيهِ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ عَامِلٌ فِي مَعْنَى لِأَعْدِلَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَأُمِرْتُ بِالْعَدْلِ بَيْنَكُمْ. وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} يَقُولُ: اللَّهُ مَالِكُنَا وَمَالِكُكُمْ مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. يَقُولُ: لَنَا ثَوَابُ مَا اكْتَسَبْنَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلَكُمْ ثَوَابُ مَا اكْتَسَبْتُمْ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} يَقُولُ: لَا خُصُومَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَالْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قَالَ: لَا خُصُومَةَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لَا خُصُومَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَقَرَأَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يَقُولُ: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقْضِي بَيْنَنَا بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يَقُولُ: وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ وَالْمَرْجِعُ بَعْدَ مَمَاتِنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَالَّذِينَ يُخَاصِمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابَ لَهُ النَّاسُ، فَدَخَلُوا فِيهِ مِنَ الَّذِينَ أُوْرِثُوا الْكِتَابَ {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} يَقُولُ: خُصُومَتُهُمُ الَّتِي يُخَاصَمُونَ فِيهِ بَاطِلَةٌ ذَاهِبَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} يَقُولُ: وَعَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنِ الْيَهُودِ خَاصَمُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دِينِهِمْ، وَطَمِعُوا أَنْ يَصُدُّوهُمْ عَنْهُ، وَيَرُدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةَ عَمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يُجَادِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ. وَقَالَ: هُمْ أَهْلُ الضَّلَالَةِ كَانَ اسْتُجِيبَ لَهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، وَهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِأَنْ تَأْتِيَهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} قَالَ: طَمِعَ رِجَالٌ بِأَنْ تَعُودَ الْجَاهِلِيَّةُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} قَالَ: بَعْدَ مَا دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالُوا: كِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ}..... الْآيَةَ، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَاجُّوا أَصْحَابَ نَبِيِّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: كِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ}.... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: نَهَاهُ عَنِ الْخُصُومَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {اللَّهُ الَّذِي أَنَزَلَ} هَذَا (الْكِتَابَ) يَعْنِي الْقُرْآنَ {بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} يَقُولُ: وَأَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَهُوَ الْعَدْلُ، لِيَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْإِنْصَافِ، وَيَحْكُمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} قَالَ: الْعَدْلَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} قَالَ: الْمِيزَانُ: الْعَدْلُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَأَيُّ شَيْءٍ يُدْرِيكَ وَيَعْلَمُكَ، لَعَلَّ السَّاعَةَ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْقِيَامَةُ قَرِيبٌ {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا}: يَقُولُ: يَسْتَعْجِلُكَ يَا مُحَمَّدُ بِمَجِيئِهَا الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ بِمَجِيئِهَا، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِيَةٍ {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} يَقُولُ: وَالَّذِينَ صَدَّقُوا بِمَجِيئِهَا، وَوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْحَشْرَ فِيهَا، {مُشْفِقُونَ مِنْهَا} يَقُولُ: وَجِلُونَ مِنْ مَجِيئِهَا، خَائِفُونَ مِنْ قِيَامِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ فِيهَا {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} يَقُولُ: وَيُوقِنُونَ أَنَّ مَجِيئَهَا الْحَقُّ الْيَقِينُ، لَا يَمْتَرُونَ فِي مَجِيئِهَا {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُخَاصِمُونَ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ وَيُجَادِلُونَ فِيهِ {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} يَقُولُ: لَفِي جَوْرٍ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَزَيْغٍ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ، بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: اللَّهُ ذُو لُطْفٍ بِعِبَادِهِ، يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ فَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيَقْتُرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ. (وَهُوَ الْقَوِيُّ) الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ ذُو أَيْدٍ لِشِدَّتِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ عِقَابَهُ بِقُدْرَتِهِ (الْعَزِيزُ) فِي انْتِقَامِهِ إِذَا انْتَقَمَ مِنْ أَهْلِ مَعَاصِيهِ. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْآخِرَةَ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ: يَقُولُ: نَزِدْ لَهُ فِي عَمَلِهِ الْحَسَنِ، فَنَجْعَلُ لَهُ بِالْوَاحِدَةِ عَشْرًا، إِلَى مَا شَاءَ رَبُّنَا مِنَ الزِّيَادَةِ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} يَقُولُ: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا وَلَهَا يَسْعَى لَا لِلْآخِرَةِ، نُؤْتِهِ مِنْهَا مَا قَسَمْنَا لَهُ مِنْهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}... إِلَى {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} قَالَ: يَقُولُ: مَنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْمَلُ لِلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا}.... الْآيَةَ، يَقُولُ: مَنْ آثَرَ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ نَصِيبًا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارَ، وَلَمْ نَزِدْهُ بِذَلِكَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا رِزْقًا قَدْ فَرَغَ مِنْهُ وَقُسِمَ لَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} قَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَعَمَلَهَا نَزِدْ لَهُ فِي عَمَلِهِ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا وَعَمِلَهَا آتَيْنَاهُ مِنْهَا، وَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبُ، الْحَرْثُ الْعَمَلُ، مَنْ عَمِلَ لِلْآخِرَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِلدُّنْيَا أَعْطَاهُ اللَّهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} قَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ عَمَلَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي عَمَلِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} قَالَ: لِلْكَافِرِ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَمْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ شُرَكَاءُ فِي شِرْكِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} يَقُولُ: ابْتَدَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يُبِحِ اللَّهُ لَهُمُ ابْتِدَاعَهُ {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَوْلَا السَّابِقُ مِنَ اللَّهِ فِي أَنَّهُ لَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ مَضَى مِنْ قِيلِهِ إِنَّهُمْ مُؤَخَّرُونَ بِالْعُقُوبَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَفَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بِتَعْجِيلِهِ الْعَذَابَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَقُولُ: وَإِنَّ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِلَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَرَى يَا مُحَمَّدُ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} يَقُولُ: وَجِلِينَ خَائِفِينَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ عَلَى مَا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ. {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} يَقُولُ: وَالَّذِينَ هُمْ مُشْفِقُونَ مِنْهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ نَازِلٌ بِهِمْ، وَهُمْ ذَائِقُوهُ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى فِي الدُّنْيَا فِي رَوْضَاتِ الْبَسَاتِينِ فِي الْآخِرَةِ. وَيَعْنِي بِالرَّوْضَاتِ: جَمْعَ رَوْضَةٍ، وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَكْثُرُ نَبْتُهُ، وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَوَاضِعِ الْأَشْجَارِ رِيَاضٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ. والنَّغْضَ مِثْلَ الْأَجْرَبِ الْمُدَّجَّلِ *** حَدَائِقَ الرَّوْضِ الَّتِي لَمْ تُحْلَلِ يَعْنِي بِالرَّوْضِ: جَمْعَ رَوْضَةٍ. وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: الْخَبَرُ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ السُّرُورِ وَالنَّعِيمِ. كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنَى أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا. وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يَقُولُ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ، وَتَلَذُّهُ أَعْيُنُهُمْ، ذَلِكَ هُوَالْفَوْزُ الْكَبِيرُ، يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: هَذَا الَّذِي أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ هَذَا النَّعِيمِ، وَهَذِهِ الْكَرَامَةِ فِي الْآخِرَةِ: هُوَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، الْكَبِيرُ الَّذِي يُفْضُلُ كُلَّ نَعِيمٍ وَكَرَامَةٍ فِي الدُّنْيَا مِنْ بَعْضِ أَهْلِهَا عَلَى بَعْضٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىوَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: هَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنِّي أَعْدَدْتُهُ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ، الْبُشْرَى الَّتِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ فِيهَا. {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينِ يُمَارُونَكَ فِي السَّاعَةِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ: لَا أَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَلَى دِعَايَتِكُمْ إِلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ، وَالنَّصِيحَةِ الَّتِي أَنْصَحُكُمْ ثَوَابًا وَجَزَاءً، وَعِوَضًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ تُعْطُونَنِيهِ {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ تَوُدُّونِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَتَصِلُوا رَحِمِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍوَيَعْقُوبُ، قَالَا ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: لَمْ يَكُنْ بَطْنً مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلَّا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَهُمْ قَرَابَةً، فَقَالَ: "قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا أَنْ تَوُدُّونِي فِي الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ". حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلَّا وَلَهُ فِيهِمْ قُرَابَةٌ، قَالَ: فَنَزَلَتْ {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: "إِلَّا الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَنْ تَصِلُوهَا". حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَابَةٌ فِي جَمِيعِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَذَّبُوهُ وَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوهُ قَالَ: "يَا قَوْمِ إِذَا أَبَيْتُمْ أَنْ تُبَايِعُونِي فَاحْفَظُوا قَرَابَتِي فِيكُمْ لَا يَكُنْ غَيْرُكُمْ مِنَ الْعَرَبِ أَوْلَى بِحِفْظِي وَنُصْرَتِي مِنْكُمْ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} يَعْنِي مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ لِقُرَيْشٍ: "لَا أَسْأَلُكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمْ أَنْ لَا تُؤْذُونِي لِقَرَابَةِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَوْمِي وَأَحَقُّ مَنْ أَطَاعَنِي وَأَجَابَنِي". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغَيَّرَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ وَاسِطًا مِنْ قُرَيْشٍ، كَانَ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ نِسَبٌ، فَقَالَ: وَلَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ تَحْفَظُونِي فِي قَرَابَتِي، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ". حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسِطَ النَّسَبِ مِنْ قُرَيْشٍ، لَيْسَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ إِلَّا وَقَدْ وَلَدُوهُ؛ قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}: "إِلَّا أَنْ تَوُدُّونِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ وَتَحْفَظُونِي ". حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ قَالَ: ثَنَا عَبْثَرٌ قَالَ: ثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَأُمُّهُ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَأُمُّ أَبِيهِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَ: "احْفَظُونِي فِي قَرَابَتِي ". حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا حَرَمِيٌّ قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عِمَارَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: تَعْرِفُونَ قَرَابَتِي، وَتُصَدِّقُونَنِي بِمَا جِئْتُ بِهِ، وَتَمْنَعُونِي. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ عَلَى هَذَا الْقُرْآنِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ يَصِلُوا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَكُلُّ بُطُونِ قُرَيْشٍ قَدْ وَلَدَتْهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَرَابَةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَنْ تَتْبَعُونِي، وَتُصَدِّقُونِي وَتَصِلُوا رَحِمِي. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فَى قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِمْ وِلَادَةٌ، فَقَالَ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} يَعْنِي قُرَيْشًا. يَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَأَعِينُونِي عَلَى عَدُوِّي، وَاحْفَظُوا قَرَابَتِي، وَإِنَّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَنْ تَوُدُّونِي لِقَرَابَتِي، وَتُعِينُونِي عَلَى عَدُوِّي. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: يَقُولُ: إِلَّا أَنْ تَوُدُّونِي لِقَرَابَتِي كَمَا تُوُادُّونَ فِي قَرَابَتِكُمْ وَتُوَاصِلُونَ بِهَا، لَيْسَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ بِهِ يَقْطَعُ ذَلِكَ عَنِّي، فَلَسْتُ أَبْتَغِي عَلَى الَّذِي جِئْتُ بِهِ أَجْرًا آخُذُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْكُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} يَقُولُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَجْرًا، إِلَّا أَنْ تَوُدُّونِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَتَمْنَعُونِي مِنَ النَّاسِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: كَلُّ قُرَيْشٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرَابَةٌ، فَقَالَ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوُدُّونِي بِالْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: قُلْ لِمَنْ تَبِعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوُدُّوا قَرَابَتِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ قَالَ: ثَنَا الصَّبَاحُ بْنُ يَحْيَى الْمَرِّيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَسِيرًا، فَأُقِيمَ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَتَلَكُمْ وَاسْتَأْصَلَكُمْ، وَقَطَعَ قُرْبَى الْفِتْنَةِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَقَرَأْتَ آلَ حم؟ قَالَ: قَرَأْتَ الْقُرْآنَ وَلَمْ أَقْرَأْ آلَ حم، قَالَ: مَا قَرَأْتَ {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟ قَالَ: وَإِنَّكُمْ لِأَنْتَمِ هُمْ؟ قَالَ نَعَمْ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُقْسِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا، فَكَأَنَّهُمْ فَخِرُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْعَبَّاسُ، شَكَّ عَبْدُ السَّلَامِ: لَنَا الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَتَاهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِِ، قَالَ: "أَفَلَا تُجِيبُونِي؟ " قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَلَا تَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فَآوَيْنَاكَ، أَوَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ، أَوَلَمْ يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْنَاكَ؟ " قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُولُ حَتَّى جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالُوا: أَمْوَالُنَا وَمَا فِي أَيْدِينَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: هِيَ قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ قَالَا ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْتُ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: قُرْبَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدَّدُوا إِلَى اللَّهِ، وَتَتَقَرَّبُوا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالطَّاعَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ وَمُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَخُوهُ أَيْضًا قَالَا ثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ثَنَا قَزْعَةُ بْنُ سُوِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدَّدُوا اللَّهَ وَتَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِه» ". حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: الْقُرْبَى إِلَى اللَّهِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثَنَاهُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: إِلَّا التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّوَدُّدَ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْكِتَابِ أَجْرًا، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، إِلَّا أَنْ تَوَدَّدُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ. قَالَ بِشْرٌ: قَالَ يَزِيدُ: وَحَدَّثَنِيهِ يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} إِلَّا أَنْ تَوَدَّدُوا إِلَى اللَّهِ فِيمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَتَكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ: ثَنَا قُرَّةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ، فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: أَمَرْتُ أَنْ تَصِلَ قَرَابَتَكَ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، وَأَشْبَهُهَا بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِلَّا أَنْ تَوُدُّونِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَتَصِلُوا الرَّحِمَ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: هَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ لِدُخُولِ"فِي" فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، وَلَوْ كَانَ مَعْنًى ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ مَنْ قَالَ: إِلَّا أَنْ تَوُدُّوا قَرَابَتِي، أَوْ تَقْرَّبُوا إِلَى اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ لِدُخُولِ"فِي" فِي الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَجْهٌ مَعْرُوفٌ، وَلَكَانَ التَّنْزِيلُ: إِلَّا مَوَدَّةَ الْقُرْبَى إِنْ عَنَى بِهِ الْأَمْرَ بِمَوَدَّةِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ إِلَّا الْمَوَدَّةَ بِالْقُرْبَى، أَوْ ذَا الْقُرْبَى إِنْ عَنَى بِهِ التَّوَدُّدُ وَالتَّقَرُّبُ. وَفِي دُخُولِ"فِي" فِي الْكَلَامِ أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَوَدَّتِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَى الْمَوَدَّةِ أُدْخِلَتَا بَدَلًا مِنَ الْإِضَافَةِ، كَمَا قِيلَ: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وَقَوْلُهُ: "إِلَّا" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا، لَكِنِّي أَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، فَالْمَوَدَّةُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ بِمُضْمَرٍ مِنَ الْفِعْلِ، بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ أَذْكُرَ مَوَدَّةَ قَرَابَتِي. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً، وَذَلِكَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يُطِيعُ اللَّهَ فِيهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} يَقُولُ: نُضَاعِفْ عَمَلَهُ ذَلِكَ الْحُسْنَ، فَنَجْعَلْ لَهُ مَكَانَ الْوَاحِدِ عَشْرًا إِلَى مَا شِئْنَا مِنَ الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} قَالَ: يَعْمَلْ حَسَنَةً. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} قَالَ: مَنْ يَعْمَلْ خَيَّرَا نَزِدْ لَهُ. الِاقْتِرَافُ: الْعَمَلُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، شَكُورٌ لِحَسَنَاتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لِلذُّنُوبِ (شَكُورٌ) لِلْحَسَنَاتِ يُضَاعِفُهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} قَالَ: غَفَرَ لَهُمُ الذُّنُوبَ، وَشَكَرَ لَهُمْ نِعَمًا هُوَ أُعْطَاهُمْ إِيَّاهَا، وَجَعَلَهَا فِيهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَمْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ: (افْتَرَى) مُحَمَّدٌ {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فَجَاءَ بِهَذَا الَّذِي يَتْلُوهُ عَلَيْنَا اخْتِلَاقًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ} يَا مُحَمَّدُ يُطْبَعُ عَلَى قَلْبِكَ، فَتَنْسَ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} فَيُنْسِكَ الْقُرْآنَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} قَالَ: إِنْ يَشَإِ اللَّهُ أَنْسَكَ مَا قَدْ أَتَاكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} قَالَ: يَطْبَعْ. وَقَوْلُهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} يَقُولُ: وَيَذْهَبُ اللَّهُ بِالْبَاطِلِ فَيَمْحَقُهُ. {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الَّتِي أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فَيُثْبِتُهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّهُ حُذِفَتْ مِنْهُ الْوَاوُ فِي الْمُصْحَفِ، كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وَمِنْ قَوْلِهِ: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} وَلَيْسَ بِجَزْمٍ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى يَخْتِمُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِنَّ اللَّهَ ذُو عِلْمٍ بِمَا فِي صُدُورِ خَلْقِهِ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ، يَقُولُ لِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ أَنْ تَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، لَطَبَعْتُ عَلَى قَلْبِكَ، وَأَذْهَبْتُ الَّذِي أَتَيْتُكَ مِنْ وَحْيِي، لِأَنِّي أَمْحُو الْبَاطِلَ فَأُذْهِبُهُ، وَأُحِقُّ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ الْكَافِرِينَ بِهِ، الزَّاعِمِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَى هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ لِفِعْلٍ بِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَاللَّهُ الَّذِي يَقْبَلُ مُرَاجَعَةَ الْعَبْدِ إِذَا رَجَعَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ مِنْ بَعْدِ كُفْرِهِ {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} يَقُولُ: وَيَعْفُو لَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ مَعَاصِيهِ الَّتِي تَابَ مِنْهَا {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ "يَفْعَلُونَ" بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ عِبَادُهُ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (تَفْعَلُونَ) بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنَّ الْيَاءَ أَعْجَبُ إِلَيَّ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ جَرَى عَلَى الْخَبَرِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وَيَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وَيَعْلَمُ رَبُّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا يَخْْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ جَزَاءَهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَرْكَبُوا مَا تَسْتَحِقُّونَ بِهِ مِنْهُ الْعُقُوبَةَ. حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ شَرَّيْكٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخْعِيِّ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ نَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قَالَ: فَوَجَدْنَا عِنْدَهُ أُنَاسًا أَوْ رِجَالًا يَسْأَلُونَهُ عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ حَرَامًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَيُجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ لِبَعْضِهِمْ دُعَاءَ بَعْضٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍقَالَ: ثَنَا عَثَّامٌ قَالَ: ثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: خَطْبَنَا مُعَاذٌ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنَّ مَنْ تُصِيبُونَ مِنْ فَارِسَ وَالرُّومِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، ذَلِكَ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا عَمِلَ لِأَحَدِكُمُ الْعَمَلَ قَالَ: أَحْسَنْتُ رَحِمَكَ اللَّهُ، أَحْسَنْتُ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. وَقَوْلُهُ: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَيَزِيدُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَعَ إِجَابَتِهِ إِيَّاهُمْ دُعَاءَهُمْ، وَإِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ مَسْأَلَتَهُمْ مَنْ فَضْلِهِ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ، بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا لَمْ يَسْأَلُوهُ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ الَّذِي ضَمِنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَزِيدَهُمُوهُ، هُوَ أَنْ يُشَفِّعَهُمْ فِي إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ إِذَا هُمْ شُفِّعُوا فِي إِخْوَانِهِمْ، فَشَفَّعُوا فِيهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخْعِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَالْكَافِرُونَ بِاللَّهِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيِ اسْتَجَابَ فَجَعَلَهُمْ هُمُ الْفَاعِلِينَ، فَالَّذِينَ فِي قَوْلِهِ رُفِعَ وَالْفِعْلُ لَهُمْ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ: وَاسْتَجَابَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِرَبِّهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ إِذَا دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَيُجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الرَّفْعُ، بِمَعْنَى وَيُجِيبُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. وَالْآخَرُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّ الْكُوفَةِ {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} يَكُونُ "الذِينَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى: وَيُجِيبُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} وَالْمَعْنَى: فَأَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ، إِلَّا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ اسْتَجَابَ، أَدْخَلْتَ اللَّامَ فِي الْمَفْعُولِ؛ وَإِذَا قُلْتَ أَجَابَ حَذَفْتَ اللَّامَ، وَيَكُونُ اسُتِجَابُهُمْ بِمَعْنَى: اسْتَجَابَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: وَإِذَا كَالُوا لَهُمْ، أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ (يُخْسِرُونَ). قَالَ: وَيَكُونُ "الذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ إِنْ يُجْعَلِ الْفِعْلُ لَهُمْ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ، وَيَزِيدُهُمْ عَلَى إِجَابَتِهِمْ، وَالتَّصْدِيقِ بِهِ مَنْ فَضْلِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ مُعَاذٌ وَمِنْ ذِكْرِنَا قَوْلَهُ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}. ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ قَوْمٍ مَنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَمَنَّوْا سِعَةَ الدُّنْيَا وَالْغِنَى، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَوْ بَسْطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ، فَوَسَّعَهُ وَكَثَّرَهُ عِنْدَهُمْ لَبَغَوْا، فَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ إِلَى غَيْرِ الَّذِي حَدَّهُ لَهُمْ فِي بِلَادِهِ بِرُكُوبِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَا حَظَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ يُنَزِّلُ رِزْقَهُمْ بِقَدَرٍ لِكِفَايَتِهِمُ الَّذِي يَشَاءُ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هَانِئٍ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ وَغَيْرَهُ يَقُولُونَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَصْحَابِ الصُّفَّةِ {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أَنَّ لَنَا، فَتَمَنَّوْا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ قَالَ: ثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيُّ قَالَ: ثَنَا حَيْوَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ يَقُولُ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}... الْآيَةَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: خَيْرُ الرِّزْقِ مَا لَا يُطْغِيكَ وَلَا يُلْهِيكَ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي زَهْرَةُ الدُّنْيَا وَكَثْرَتُهَا". فَقَالَ لَهُ قَاتِلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِِ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرَ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ كَرْبٌ لِذَلِكَ، وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ، حَتَّى إِذَا سُرِّيَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ" يَقُولُهَا ثَلَاثًا: "إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ"، يَقُولُهَا ثَلَاثًا. وَكَانَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِتْرَ الْكَلَامِ: وَلَكِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ رَبِيعٌ قَطُّ إِلَّا أُحْبِطَ أَوْ أُلِمَّ فَأَمَّا عَبْدٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَوَضَعَهُ فَى سَبِيلِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَ وَارْتَضَى، فَذَلِكَ عَبْدٌ أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ، وَعَزَمَ لَهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَمَّا عَبْدٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالَا فَوَضُعَهُ فِي شَهَوَاتِهِ وَلَذَّاتِهِ، وَعَدَلَ عَنْ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ عَبْدٌ أُرِيدَ بِهِ شَرٌّ، وَعَزْمٌ لَهُ عَلَى شَر» ". وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِنَّ اللَّهَ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ وَيُفْسِدُهُمْ مِنْ غِنًى وَفَقْرٍ وَسِعَةٍ وَإِقْتَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ وَمَضَارِّهِمْ، ذُو خِبْرَةٍ، وَعِلْمٍ، بَصِيرٌ بِتَدْبِيرِهِمْ، وَصَرْفِهِمْ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَاللَّهُ الَّذِي يُنَزِّلُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ فَيُغِيثُكُمْ بِهِ أَيُّهَا النَّاسُ {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا يَئِسَ مِنْ نُزُولِهِ وَمَجِيئِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرِ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ، وَقَنِطَ النَّاسُ، قَالَ: مُطِّرُوا إِذَنْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} قَالَ: يَئِسُوا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَحَطَ الْمَطَرُ، وَقَنِطَ النَّاسُ قَالَ: مُطِّرْتُمْ {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ}. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} يَقُولُ: وَهُوَ الَّذِي يَلِيكُمْ بِإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ، الْحَمِيدُ بِأَيَادِيهِ عِنْدَكُمْ، وَنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ فِي خَلْقِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمِنْ حُجَجِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَائِكُمْ بَعْدَ فَنَائِكُمْ، وَبَعْثِكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ مِنْ بَعْدِ بَلَائِكُمْ، خَلْقُهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ، يَعْنِي وَمَا فَرَّقَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} قَالَ: النَّاسُ وَالْمَلَائِكَةُ. يَقُولُ: وَهُوَ عَلَى جَمْعِ مَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ إِذَا شَاءَ جَمَعَهُ، ذُو قُدْرَةٍ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ خَلْقُهُ وَتَفْرِيقُهُ، يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَكَذَلِكَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى جَمْعِ خَلْقِهِ بِحَشْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَوْصَالِهِمْ فِي الْقُبُورِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا يُصِيبُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} يَقُولُ: فَإِنَّمَا يُصِيبُكُمْ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ لَكُمْ بِمَا اجْتُرَمْتُمْ مِنَ الْآثَامِ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ وَيَعْفُو لَكُمْ رَبُّكُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ إِجْرَامِكُمْ، فَلَا يُعَاقِبُكُمْ بِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: ثَنَا أَيُّوبَ قَالَ: «قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي قُلَابَةَ قَالَ: نَزَلَتْ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُلُ، فَأَمْسَكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَرَاءٍ مَا عَمِلْتُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ مَا رَأَيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ فَهُوَ مِنْ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الشَّرِّ، وَتَُدَّخَرُ مَثَاقِيلُ الْخَيْرِ حَتَّى تُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: قَالَ أَبُو إِدْرِيسَ: فَأَرَى مِصْدَاقَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ الْهَيْثَمُ بْنُ الرَّبِيعِ، فَقَالَ فِيهِ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قُلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنْ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ غَلَطُ، وَالصَّوَابُ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.... الْآيَةَ" ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: " «لَا يُصِيبُ ابْنُ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ، وَلَا عَثْرَةُ قَدَمٍ، وَلَا اخْتِلَاجُ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَر» ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.... الْآيَةَ، قَالَ: يُعَجَّلُ لِلْمُؤْمِنِينَ عُقُوبَتَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ: وَمَا عُوقِبْتُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ عُقُوبَةٍ بِحَدٍّ حَدَّدْتُمُوهُ عَلَى ذَنْبٍ اسْتَوْجَبْتُمُوهُ عَلَيْهِ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ يَقُولُ: فِيمَا عَمِلْتُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} فُلَا يُوجِبُ عَلَيْكُمْ فِيهَا حَدًّا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ}... الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا فِي الْحُدُودِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ يُصِيبُهُ عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلَا خَدْشُ عُودٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا إِلَّا بِذَنْبٍ، أَوْ يَعْفُو، وَمَا يَعْفُو أَكْثَرُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: وَمَا أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِمُفِيتِي رَبَّكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ إِذَا أَرَادَ عُقُوبَتَكُمْ عَلَى ذُنُوبِكُمُ الَّتِي أَذْنَبْتُمُوهَا، وَمَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ الَّتِي رَكِبْتُمُوهَا هَرَبًا فِي الْأَرْضِ، فَمُعْجِزِيهِ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ حَيْثُ كُنْتُمْ فِي سُلْطَانِهِ وَقَبْضَتِهِ، جَارِيَةٌ فِيكُمْ مَشِيئَتُهُ {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} يَلِيكُمْ بِالدِّفَاعِ عَنْكُمْ إِذَا أَرَادَ عُقُوبَتَكُمْ عَلَى مَعْصِيَتِكُمْ إِيَّاهُ (وَلَا نَصِيرٍ) يَقُولُ: وَلَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ نَصِيرٌ يَنْصُرُكُمْ إِذَا هُوَ عَاقَبَكُمْ، فَيَنْتَصِرُ لَكُمْ مِنْهُ، فَاحْذَرُوا أَيُّهَا النَّاسُ مَعَاصِيَهُ، وَاتَّقُوهُ أَنْ تُخَالِفُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ أَوْ نَهَاكُمْ، فَإِنَّهُ لَا دَافِعَ لِعُقُوبَتِهِ عَمَّنْ أَحَلَّهَا بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمِنْ حُجَجِ اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ أَرَادَهُ، السُّفُنُ الْجَارِيَةُ فِي الْبَحْرِ. وَالْجَوَارِي: جَمْعُ جَارِيَةٍ، وَهِيَ السَّائِرَةُ فِي الْبَحْرِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبَى نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ} قَالَ: السُّفُنُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ} قَالَ: الْجَوَارِي: السُّفُنُ. وَقَوْلُهُ: {كَالْأَعْلَامِ} يَعْنِي كَالْجِبَالِ: وَاحِدُهَا عَلَمٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَأَنَّه عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ *** يَعْنِي: جَبَلٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {كَالْأَعْلَامِ} قَالَ: كَالْجِبَالِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْأَعْلَامُ: الْجِبَالُ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِنْ يَشَإِ اللَّهُ الَّذِي قَدْ أَجْرَى هَذِهِ السُّفُنَ فِي الْبَحْرِ أَنْ لَا تَجْرِي فِيهِ، أَسْكَنَ الرِّيحَ الَّتِي تَجْرِي بِهَا فِيهِ، فَثَبَتْنَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَوَقَفْنَ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ لَا تَجْرِي، فَلَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} سُفُنُ هَذَا الْبَحْرِ تَجْرِي بِالرِّيحِ فَإِذَا أُمْسِكَتْ عَنْهَا الرِّيحُ رَكَدَتْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} لَا تَجْرِي. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} يَقُولُ: وُقُوفًا. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِ صَبَّارٍ شَكُورٍ} يَقُولُ: إِنَّ فِي جَرْيِ هَذِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ لَعِظَةً وَعِبْرَةً وَحُجَّةً بَيِّنَةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، لِكُلِّ ذِي صَبْرٍ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، شَكُورٍ لِنِعَمِهِ وَأَيَادِيهِ عِنْدَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَوْ يُوبِقُ هَذِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ رُكْبَانُهَا مِنَ الذُّنُوبِ، وَاجْتَرَمُوا مِنَ الْآثَامِ، وَجَزْمُ يُوبِقُهُنَّ، عَطْفًا عَلَى {يُسْكِنِ الرِّيحَ} وَمَعْنَى الْكَلَامِ إِنْ يَسْكُنِ الرِّيحُ فَيُظَلِّلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ، {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} أَوْ يُهْلِكُهُنَّ بِالْغَرَقِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يَقُولُ: يُهْلِكُهُنَّ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ}: أَوْ يُهْلِكْهُنَّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} قَالَ: يُغْرِقُهُنَّ بِمَا كَسَبُوا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {بِمَا كَسَبُوا} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا}: أَيْ بِذُنُوبِ أَهْلِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} قَالَ: بِذُنُوبِ أَهْلِهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} قَالَ: يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبَتْ أَصْحَابُهُنَّ. وَقَوْلُهُ: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} يَقُولُ: وَيَصْفَحُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذُنُوبِكُمْ فَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَيَعْلَمُ الَّذِينَ يُخَاصِمُونَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي آيَاتِهِ وَعِبَرِهِ وَأَدِلَّتِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةَ "وَيَعْلَمُ الَّذِينَ"رَفْعًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ} نَصْبًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} عَلَى الصَّرْفِ؛ وَكَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ *** رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَنُمْسِكَ بَعْدَهُ بِذَنَابِ عَيْشٍ *** أَجَبِّ الظَّهْرِ لَهُ سَنَامُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَلُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ إِذَا عَاقَبَهُمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ بِهِ، وَلَا لَهُمْ مِنْهُ مَلْجَأٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}: مَا لَهُمْ مِنْ مَلْجَإٍ. وَقَوْلُهُ: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَمَا أُعْطِيتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ رِيَاشِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ، فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَهُوَ مَتَاعٌ لَكُمْ تَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مِنْ دَارِ الْآخِرَةِ، وَلَا مِمَّا يَنْفَعُكُمْ فِي مَعَادِكُمْ. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَالَّذِي عِنْدَ اللَّهِ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، خَيْرٌ مِمَّا أُوتِيتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَتَاعِهَا وَأَبْقَى، لِأَنَّ مَا أُوتِيتُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ نَافِدٌ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ النَّعِيمِ فِي جَنَانِهِ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ بَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ. {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يَقُولُ: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لِلَّذِينِ آمَنُوا بِهِ، وَعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُونَ فِي أُمُورِهِمْ، وَإِلَيْهِ يَقُومُونَ فِي أَسْبَابِهِمْ، وَبِهِ يَثِقُونَ، خَيْرٌ وَأَبْقَى مِمَّا أُوتِيتُمُوهُ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لِلَّذِينِ آمَنُوا {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ}، وَكَبَائِرَ فَوَاحِشِ الْإِثْمِ، قَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا وَبَيَّنَّا الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِيهَا فَى سُورَةِ النِّسَاءِِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هَا هُنَا. (وَالْفَوَاحِشَ) قِيلَ: إِنَّهَا الزِّنَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (وَالْفَوَاحِشَ) قَالَ: الْفَوَاحِشُ: الزِّنَى. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {كَبَائِرَ الْإِثْمِ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْجَمَاعِ كَذَلِكَ فِي النَّجْمِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ "كَبِيرُ الْإِثْمِ" عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، عَنَى بِكَبِيرِ الْإِثْمِ: الشِّرْكُ، كَمَ كَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: كَأَنِّي أَسْتَحِبُّ لِمَنْ قَرَأَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ أَنْ يُخَفِّضَ الْفَوَاحِشَ، لِتَكُونَ الْكَبَائِرُ مُضَافَةً إِلَى مَجْمُوعِ إِذْ كَانَتْ جَمْعَا، وَقَالَ: مَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنَ الْقُرَّاءِ خَفَضَ الْفَوَاحِشَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى تَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَإِذَا مَا غَضِبُوا عَلَى مَنِ اجْتَرَمَ إِلَيْهِمْ جُرْمًا، هُمْ يَغْفِرُونَ لِمَنْ أَجْرَمَ إِلَيْهِمْ ذَنْبَهُ، وَيَصْفَحُونَ عَنْهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَالَّذِينَ أَجَابُوا لِرَبِّهِمْ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَا يُعْبَدُ دُونَهُ {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ}... الْآيَةَ الْأَنْصَارَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَقَرَأَ {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} قَالَ: فَبَدَأَ بِهِمْ {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} الْأَنْصَارُ {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} وَلَيْسَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} لَيْسَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْضًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَالَّذِينَ إِذَا بَغَى عَلَيْهِمْ بَاغٍ، وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْبَاغِي الَّذِي حَمِدَ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-، الْمُنْتَصِرُ مِنْهُ بَعْدَ بَغْيِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْمُشْرِكُ إِذَا بَغَى عَلَى الْمُسْلِمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ صِنْفَيْنِ، صِنْفًا عَفَا، وَصِنْفًا انْتَصَرَ، وَقَرَأَ {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} قَالَ: فَبَدَأَ بِهِمْ {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ}... إِلَى قَوْلِهِ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَهْمُ الْأَنْصَارُ. ثُمَّ ذَكَرَ الصِّنْفَ الثَّالِثَ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ كُلُّ بَاغٍ بَغَى فَحَمَدَ الْمُنْتَصِرَ مِنْهُ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} قَالَ: يَنْتَصِرُونَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَى دُونَ مَعْنَى، بَلْ حَمِدَ كُلَّ مُنْتَصِرٍ بِحَقٍّ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا فِي الِانْتِصَارِ مِنَ الْمَدْحِ؟ قِيلَ: إِنَّ فِي إِقَامَةِ الظَّالِمِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَعُقُوبَتِهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ تَقْوِيمًا لَهُ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَدْحِ. وَقَوْلُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةِ الْمُسِيءِ عُقُوبَتُهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ، فَهِيَ مَسَاءَةٌ لَهُ. وَالسَّيِّئَةُ: إِنَّمَا هِيَ الْفِعْلَةُ مِنَ السُّوءِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ يُجَابَ الْقَائِلُ الْكَلِمَةَ الْقَزْعَةَ بِمِثْلِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو بِشْرٍ: سَمِعْتُ. ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قَالَ: يَقُولُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قَالَ: إِذَا شَتَمَكَ بِشَتْمَةٍ فَاشْتِمْهُ مِثْلَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَدِيَ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} مِنَ الْمُشْرِكِينَ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}... الْآيَةَ، لَيْسَ أَمْرُكُمْ أَنْ تَعْفُوا عَنْهُمْ لِأَنَّهُ أَحَبَّهُمْ {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}، ثُمَّ نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ وَأَمَرَهُ بِالْجِهَادِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ هَذَا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْكَ، سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا مِنْكُمْ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ عَفَوْتُمْ وَأَصْلَحْتُمْ فِي الْعَفْوِ، فَأَجْرُكُمْ فِي عَفْوِكُمْ عَنْهُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ؛ وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} وَلِلَّذِي قَالَ مِنْ ذَلِكَ وَجْهٌ. غَيْرُ أَنَّ الصَّوَابَ عِنْدَنَا: أَنَّ تَحَمُّلَ الْآيَةِ عَلَى الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَنْقُلْهُ إِلَى الْبَاطِنِ مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ حُجَّةٌ فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْمُشْرِكُونَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، فَنُسَلِّمُ لَهَا بِأَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَمَنْ عَفَا عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ إِسَاءَتَهُ إِلَيْهِ، فَغَفَرَهَا لَهُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ بِهَا، وَهُوَ عَلَى عُقُوبَتِهِ عَلَيْهَا قَادِرٌ ابْتِغَاءَِ وَجْهِ اللَّهِ، فَأَجْرُ عَفْوِهِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ مُثِيبُهُ عَلَيْهِ ثَوَابَهُ. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَهْلَ الظُّلْمِ الَّذِينَ يَتَعَدَّوْنَ عَلَى النَّاسِ، فَيُسِيئُونَ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ مَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَمَنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ مِمَّنْ بَعْدَ ظُلْمِهِ إِيَّاهُ {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} يَقُولُ: فَأُولَئِكَ الْمُنْتَصِرُونَ مِنْهُمْ لَا سَبِيلَ لِلْمُنْتَصِرِ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ بِعُقُوبَةٍ لَا أَذَى، لِأَنَّهُمُ انْتَصَرُوا مِنْهُمْ بِحَقٍّ، وَمَنْ أَخَذَ حَقَّهُ مِمَّنْ وَجَبَ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ، لَمْ يَظْلِمْ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِي بِذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ كُلَّ مُنْتَصِرٍ مِمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، مُسْلِمًا كَانَ الْمُسِيءُ أَوْ كَافِرًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: ثَنَا مُعَاذٌ قَالَ: ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنِ الِانْتِصَارِ {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}... الْآيَةَ، فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، «عَنْأُمِّ مُحَمَّدٍامْرَأَةِ أَبِيهِ، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعِنْدَنَازَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَجَعَلَ يَصْنَعُ بِيَدِهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَفْطَنْ لَهَا، فَقُلْتُ بِيَدِهِ حَتَّى فَطَّنْتُهُ لَهَا، فَأَمْسَكَ، وَأَقْبَلَتْزَيْنَبُتُقْحِمُ عَائِشَة، فَنَهَاهَا، فَأَبَتْ أَنْ تَنْتَهِيَ، فَقَالَلِ عَائِشَة: "سُبِّيهَا" فَسَبَّتْهَا وَغَلَبَتْهَا وَانْطَلَقَتْ زَيْنَبُ فَأَتَتْ عَلِيًّا، فَقَالَتْ: إِنَّ عَائِشَة تقَعُ بِكُمْ وَتَفْعَلُ بِكُمْ، فَجَاءَتْفَاطِمَةُ، فَقَالَ لَهَا: "إِنَّهَا حَبَّةُ أَبِيكِ وَرَبَّ الْكَعْبَةِ"، فَانْصَرَفَتْ وَقَالَتْ لِعَلِيٍّ: إِنِّي قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ كَذَا وَكَذَا؛ قَالَ: وَجَاءَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِك». حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}... الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا فِي الْخَمْشِ يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} قَالَ: هَذَا فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقِصَاصِ، فَأَمَّا لَوْ ظَلَمَكَ رَجُلٌ لَمْ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَظْلِمَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ الِانْتِصَارَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَقَالَ: هَذَا مَنْسُوخٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} قَالَ: لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ انْتَصَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهَذَا قَدْ نُسِخَ، وَلَيْسَ هَذَا فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ كُلَّ مُنْتَصِرٍ مِنْ ظَالِمِهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ مُحَكِّمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لِلْعِلَّةِ الَّتِي بَيَّنْتُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الطَّرِيقُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَدَّوْنَ عَلَى النَّاسِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بِأَنْ يُعَاقِبُوهُمْ بِظُلْمِهِمْ لَا عَلَى مَنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَقَّهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يَقُولُ: وَيَتَجَاوَزُونَ فِي أَرْضِ اللَّهِ الْحَدَّ الَّذِي أَبَاحَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِلَى مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ، فَيُفْسِدُونَ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ. يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، لَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَمَنْ صَبَرَ عَلَى إِسَاءَةٍ إِلَيْهِ، وَغَفَرَ لِلْمُسِيءِ إِلَيْهِ جُرْمَهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَنْتَصِرْ مِنْهُ، وَهُوَ عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْهُ قَادِرٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَجَزِيلُ ثَوَابِهِ. {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} يَقُولُ: إِنَّ صَبْرَهُ ذَلِكَ وَغُفْرَانَهُ ذَنْبَ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ، لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ الَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا عِبَادَهُ، وَعَزَمَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلَ بِهِ. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} يَقُولُ: وَمَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ عَنِ الرَّشَادِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْ وَلِيٍّ يَلِيهِ، فَيَهْدِيهِ لِسَبِيلِ الصَّوَابِ، وَيُسَدِّدُهُ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَتَرَى الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَّا عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ يَقُولُونَ لِرَبِّهِمْ: (هَلْ) لَنَا يَا رَبُّ {إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}... الْآيَةَ، اسْتَعْتَبَ الْمَسَاكِينُ فِي غَيْرِ حِينِ الِاسْتِعْتَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} يَقُولُ: إِلَى الدُّنْيَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ"إِنَّ" فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} مَعَ دُخُولِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} فَكَانَ نَحْوِيُّ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: أَمَّا اللَّامُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} فَلَامُ الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا إِنْ ذَلِكَ فَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَقَالَ: قَدْ تَقُولُ: مَرَرْتُ بِالدَّارِ الذِّرَاعُ بِدِرْهَمٍ: أَيِ الذِّرَاعُ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، وَمَرَرْتُ بِبُرٍّ قَفِيزٌ بِدِرْهَمْ، أَيْ قَفِيزٌ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ. قَالَ: وَأَمَّا ابْتِدَاءُ"إِنَّ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَمِثْلَ {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ، وَهَذَا إِذَا طَالَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَخْطِئُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَدْخَلَتِ اللَّامَ فِي أَوَائِلِ الْجَزَاءِ أَجَابَتْهُ بِجَوَابَاتِ الْأَيْمَانُ بِمَا، وَلَا وَإِنَّ وَاللَّامِ: قَالَ: وَهَذَا مِنْ ذَاكَ، كَمَا قَالَ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} فَجَاءَ بِلَا وَبِاللَّامِ جَوَابًا لِلَّامُ الْأُولَى. قَالَ: وَلَوْ قَالَ: لَئِنْ قُمْتَ إِنِّي لَقَائِمٌ لَجَازَ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى الْعَائِدِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ فِي الْيَمِينِ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْعَائِدُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: لَئِنْ قُمْتَ لَأَقُومَنَّ، وَلَا أَقُومُ، وَإِنِّي لَقَائِمٌ فَلَا تَأْتِي بِعَائِدٍ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَرَرْتُ بِدَارٍ الذِّرَاعُ بِدِرْهَمٍ وَبِبُرٍّ قَفِيزٌ بِدِرْهَمٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْأَوَّلِ بِالْعَائِدِ، وَإِنَّمَا يُحْذَفُ الْعَائِدُ فِيهِ، لِأَنَّ الثَّانِي تَبْعِيضٌ لِلْأَوَّلِ مَرَرْتُ بِبُرٍّ بَعْضُهُ بِدِرْهَمٍ، وَبَعْضُهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى التَّبْعِيضَ حُذِفَ الْعَائِدُ. قَالَ: وَأَمَّا ابْتِدَاءُ"إِنْ" فَى كُلِّ مَوْضِعٍ إِذَا طَالَ الْكَلَامُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَبْتَدِئَ إِلَّا بِمَعْنَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ جَوَابٌ لِلْجَزَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا فَرَرْتُمْ مِنْهُ مِنَ الْمَوْتِ، فَهُوَ مُلَاقِيكُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدِي أَوْلَى فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَتَرَى يَا مُحَمَّدُ الظَّالِمِينَ يَعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} يَقُولُ: خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْخُشُوعُ: الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}... إِلَى قَوْلِهِ: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} قَالَ: قَدْ أَذَلَّهُمُ الْخَوْفُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ وَخَشَعُوا لَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: (خَاشِعِينَ) قَالَ: خَاضِعِينَ مِنَ الذُّلِّ. وَقَوْلُهُ: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} يَقُولُ: يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ إِلَى النَّارِ حِينَ يَعْرَضُونَ عَلَيْهَا مِنْ طَرْفٍ خَفِيِّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: مِنْ طَرْفٍ ذَلِيلٍ. وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: مِنْ طَرْفٍ قَدْ خَفِيَ مِنْ ذِلَّةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ}... إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} يَعْنِي بِالْخَفِيِّ: الذَّلِيلَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى: وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قَالَ: ذَلِيلٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُسَارِقُونَ النَّظَرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قَالَ: يُسَارِقُونَ النَّظَرَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قَالَ: يُسَارِقُونَ النَّظَرَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ فِي ذَلِكَ: جُعِلَ الطَّرْفُ الْعَيْنَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَنَظَرُهُمْ مِنْ عَيْنٍ ضَعِيفَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَقَالَ يُونُسُ: إِنَّ (مِنْ طَرْفٍ) مَثَلُ بِطَرْفٍ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَرَبْتُهُ فِي السَّيْفِ، وَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: إِنَّمَا قِيلَ: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} لِأَنَّهُ لَا يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ، إِنَّمَا يَنْظُرُ بِبَعْضِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّمَا قِيلَ: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّارِ بِقُلُوبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّارِ مِنْ طَرْفٍ ذَلِيلٍ، وَصَفَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْخَفَاءِ لِلذِّلَّةِ الَّتِي قَدْ رَكِبَتْهُمْ، حَتَّى كَادَتْ أَعْيُنُهُمْ أَنْ تُغُورَ، فَتَذْهَبَ. وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: إِنَّ الْمَغْبُونِينَ الَّذِينَ غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قَالَ: غَبَنُوا أَنْفُسَهَمْ وَأَهْلِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَلَا إِنَّ الْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَذَابٍ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مُقِيمٍ عَلَيْهِمْ، ثَابِتٍ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ، وَلَا يَبِيدُ، وَلَا يَخِفُّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَمْ يَكُنْ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ حِينَ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْلِيَاءٌ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا يَنْتَصِرُونَ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى مَا نَالَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ مَنْ دُونِ اللَّهِ. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} يَقُولُ: وَمَنْ يَخْذُلُهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَمَا لَهُ مِنْ طَرِيقٍ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ بِيَدِهِ دُونَ كُلِّ أَحَدٍ سِوَاهُ. وَقَوْلُهُ: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِلْكَافِرِينَ بِهِ: أَجِيبُوا أَيُّهَا النَّاسُ دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ وَاتَّبِعُوهُ عَلَى مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} يَقُولُ: لَا شَيْءَ يُرَدُّ مَجِيئُهُ إِذَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَا لَكَمَ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ مَعْقِلٍ تَحْتَرِزُونَ فِيهِ، وَتَلْجَئُونَ إِلَيْهِ، فَتَعْتَصِمُونَ بِهِ مِنَ النَّازِلِ بِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ، كَانَ فِي الدُّنْيَا {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} يَقُولُ: وَلَا أَنْتُمْ تَقْدِرُونَ لِمَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عِقَابِهِ يَوْمَئِذٍ عَلَى تَغْيِيرِهِ، وَلَا عَلَى انْتِصَارٍ مِنْهُ إِذَا عَاقَبَكُمْ بِمَا عَاقَبَكُمْ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ} قَالَ: مِنْ مَحْرَزٍ. وَقَوْلُهُ: (مِنْ نَكِيرٍ) قَالَ: نَاصِرٌ يَنْصُرُكُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ} تَلْجَئُونَ إِلَيْهِ {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} يَقُولُ: مِنْ عَزٍّ تَعْتَزُّونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُوَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهُمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَإِنْ أَعْرَضَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ عَمَّا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَدَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الرُّشْدِ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، وَأَبَوْا قَبُولَهُ مِنْكَ، فَدَعْهُمْ، فَإِنَّا لَنْ نُرْسِلَكَ إِلَيْهِمْ رَقِيبًا عَلَيْهِمْ، تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ وَتُحْصِيهَا. {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} يَقُولُ: مَا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا أَنْ تُبْلِغَهُمْ مَا أَرْسَلْنَاكَ بِهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَإِذَا بَلَّغْتَهُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَإِنَّا إِذَا أَغْنَيْنَا ابْنَ آدَمَ فَأَعْطَيْنَاهُ مِنْ عِنْدِنَا سِعَةً، وَذَلِكَ هُوَ الرَّحْمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَرِحَ بِهَا: يَقُولُ: سُرَّ بِمَا أَعْطَيْنَاهُ مِنَ الْغِنَى، وَرَزَقْنَاهُ مِنَ السِّعَةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يَقُولُ: وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ فَاقَةٌ وَفَقْرٌ وَضَيِّقُ عَيْشٍ. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهُمْ} يَقُولُ: بِمَا أَسْلَفَتْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ، جَحَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَأَيَسَ مِنَ الْخَيْرِ {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَإِنَّ الْإِنْسَانَ جَحُودٌ نِعَمَ رَبِّهِ، يُعَدِّدُ الْمَصَائِبَ وَيَجْحَدُ النِّعَمَ. وَإِنَّمَا قَالَ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} فَأَخْرَجَ الْهَاءَ وَالْمِيمَ مَخْرَجَ كِنَايَةِ جَمْعِ الذُّكُورِ، وَقَدْ ذُكِّرَ الْإِنْسَانُ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: لِلَّهِ سُلْطَانُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ، يَفْعَلُ فِي سُلْطَانِهِ مَا يَشَاءُ، وَيَخْلُقُ مَا يُحِبُّ خَلْقَهُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْوَلَدِ الْإِنَاثَ دُونَ الذُّكُورِ، بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ مَا حَمَلَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ حَمْلٍ مِنْهُ أُنْثَى {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} يَقُولُ: وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمُ الذُّكُورَ، بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ حَمْلٍ حَمَلَتْهُ امْرَأَتُهُ ذَكَرًا لَا أُنْثَى فِيهِمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} قَالَ: يَخْلِطُ بَيْنَهُمْ يَقُولُ: التَّزْوِيجُ: أَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ غُلَامًا، ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً، ثُمَّ تَلِدُ غُلَامًا، ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} قَادِرٌ وَاللَّهِ رَبِّنَا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَهَبَ لِلرَّجُلِ ذُكُورًا لَيْسَتْ مَعَهُمْ أُنْثَى، وَأَنْ يَهَبَ لِلرَّجُلِ ذُكْرَانَا وَإِنَاثًا، فَيَجْمَعُهُمْ لَهُ جَمِيعًا، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} لَا يُولَدُ لَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} لَيْسَتْ مَعَهُمْ إِنَاثٌ {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} قَالَ: يَهَبُ لَهُمْ إِنَاثًا وَذُكْرَانَا، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} يَقُولُ: لَا يُلَقِّحُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} لَا يَلِدُ وَاحِدًا وَلَا اثْنَيْنِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} لَيْسَ فِيهِمْ أُنْثَى {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} تَلِدُ الْمَرْأَةُ ذَكَرًا مَرَّةً وَأُنْثَى مَرَّةً {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} لَا يُولَدُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} قَالَ: أَوْ يَجْعَلُ فِي الْوَاحِدِ ذَكَرًا وَأُنْثَى تَوْأَمًا، هَذَا قَوْلُهُ: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِنَّ اللَّهَ ذُو عِلْمٍ بِمَا يَخْلُقُ، وَقُدْرَةٍ عَلَى خَلْقِ مَا يَشَاءُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَ خَلْقَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍأَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يُكَلِّمَهُ رَبُّهُ إِلَّا وَحَيًّا يُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ، أَوْ إِلْهَامًا وَإِمَّا غَيْرَهُ {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} يَقُولُ: أَوْ يُكَلِّمُهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَلَا يَرَاهُ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} يَقُولُ: أَوْ يُرْسِلُ اللَّهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ رَسُولًا إِمَّا جِبْرَائِيلَ، وَإِمَّا غَيْرَهُ {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} يَقُولُ: فَيُوحِي ذَلِكَ الرَّسُولُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ مَا يَشَاءُ، يَعْنِي: مَا يَشَاءُ رَبُّهُ أَنْ يُوحِيَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} يُوحِي إِلَيْهِ {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} قَالَ: جِبْرَائِيلُ يَأْتِي بِالْوَحْيِ. وَاخْتَلَفَتِِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} فَيُوحِي، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ {فَيُوحِيَ} بِنُصْبِ الْيَاءِ عَطْفًا عَلَى (يُرْسِلَ)، وَنَصَبُوا (يُرْسِلَ) عَطْفًا بِهَا عَلَى مَوْضِعِ الْوَحْيِ، وَمَعْنَاهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ أَوْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ نَافِعٌ الْمَدَنِيُّ"فَيُوحِي" بِإِرْسَالِ الْيَاءِ بِمَعْنَى الرَّفْعِ عَطْفًا بِهِ عَلَى (يُرْسِلَ)، وَبِرَفْعِ (يُرْسِلُ) عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- إِنَّهُ يَعْنِي نَفْسَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ذُو عُلُوٍّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَارْتِفَاعٌ عَلَيْهِ، وَاقْتِدَارٌ. حَكِيمٌ: يَقُولُ: ذُو حِكْمَةٍ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. يَعْنِي- تَعَالَى ذِكْرُهُ- بِقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} وَكَمَا كُنَّا نُوحِي فِي سَائِرِ رُسُلِنَا، كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْقُرْآنَ، رُوحًا مِنْ أَمَرِنَا: يَقُولُ: وَحَيًا وَرَحْمَةً مِنْ أَمَرَنَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى الرُّوحِفِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ الرَّحْمَةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} قَالَ: رَحْمَةً مِنْ أَمَرِنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: وَحَيًا مِنْ أَمَرِنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} قَالَ: وَحَيًا مِنْ أَمَرِنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الرُّوحِ فِيمَا مَضَى بِذِكْرِ اخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا كُنْتَ تَدْرِي يَا مُحَمَّدُ أَيَّ شَيْءٍ الْكِتَابَ وَلَا الْإِيمَانَ اللَّذَيْنِ أَعْطَيْنَاكَهُمَا. {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} يَقُولُ: وَلَكِنْ جَعْلَنَا هَذَا الْقُرْآنَ، وَهُوَ الْكِتَابُ نُورًا، يَعْنِي ضِيَاءً لِلنَّاسِ، يَسْتَضِيئُونَ بِضَوْئِهِ الَّذِي بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ، وَهُوَ بَيَانُهُ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ، مِمَّا لَهُمْ فِيهِ فِي الْعَمَلِ بِهِ الرَّشَادُ، وَمِنَ النَّارِ النَّجَاةُ {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} يَقُولُ: نَهْدِي بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَالْهَاءُ فَى قَوْلِهِ"بِهِ" مَنْ ذَكَرَ الْكِتَابَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ}: نُسَدِّدُ إِلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ {مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} يَقُولُ: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ هِدَايَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ عِبَادِنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} يَعْنِي مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} يَعْنِي بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} فَوَحَّدَ الْهَاءَ، وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلُ الْكِتَابُ وَالْإِيمَانُ، لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ الْكِتَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ الْإِيمَانَ وَالْكِتَابَ، وَلَكِنْ وَحَّدَ الْهَاءَ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَفْعَالِ يَجْمَعُ جَمِيعُهَا الْفِعْلَ، كَمَا يُقَالُ: إِقْبَالُكَ وَإِدْبَارُكَ يُعْجِبُنِي، فَيُوَحِّدُهُمَا وَهُمَا اثْنَانِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لِتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ عِبَادَنَا، بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَالْبَيَانِ لَهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَالَ: لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يَقُولُ: تَدْعُو إِلَى دِينٍ مُسْتَقِيمٍ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّكَ لِتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، طَرِيقُ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ عِبَادَهُ، الَّذِي لَهُ مَلَكُ جَمِيعِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَالصِّرَاطُ الثَّانِي: تَرْجَمَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَلَا إِلَى اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ تَصِيرُ أُمُورُكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَيَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْعَدْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَ لَيْسَتْ أُمُورُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَيْهِ؟ قِيلَ: هِيَ وَإِنْ كَانَ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُمْ حُكَّامًا وَوُلَاةً يَنْظُرُونَ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَاكِمٌ وَلَا سُلْطَانٌ غَيْرُهُ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِلَيْهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ هُنَالِكَ وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُورُ كُلُّهَا إِلَيْهِ وَبِيَدِهِ قَضَاؤُهَا وَتَدْبِيرُهَا فِي كُلِّ حَالٍ. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ حم عسق
|